احمد الجزار يكتب..تشويه تاريخ المصري القديم

عندما نسمع عن حضارة مصر القديمة، يتبادر إلى أذهان الكثير فكرة أنهم كانوا كفار يعبدون الشمس والتماثيل، وأنهم كانوا بلا عقيدة واضحة. هذا التصور لم ينشأ من قراءة حقيقية لنصوصهم أو لفكرهم الروحي، بل من رؤيتنا المعاصرة للرموز دون فهم المعنى الذي كان يقصده المصري القديم

لم يكونوا المصريين القدماء ينظرون إلى الشمس على أنها إله، ولا إلى التمثال على أنه كائن يملك القوة. كانوا يؤمنون بوجود قوة إلهية واحدة تحكم الكون، تظهر في مظاهر مختلفة داخل الطبيعة. كلمة “إله” لديهم لم تكن تعني “ربًا مستقلاً”، بل كانت تعني صفة من صفات الإله الأعظم.

عندما قالوا “رع”، لم يقصدوا الشمس ذاتها، بل القوة الإلهية التي تتجلى من خلال نورها وبدايتها كل يوم. الشمس كانت رمزًا للحياة، للخلق، للبدء من جديد. أما “أوزيريس”، فلم يكن إله الموت كما يعتقد البعض، بل رمزًا للبعث والحكمة والحياة بعد الموت. و”ماعت” لم تكن امرأة تُعبد، بل رمزًا للحق والعدل والنظام. المصري لم يكن يرى هذه الأسماء كآلهة متعددة، بل كان يرى أن لكل صفة اسمًا، وكل اسم يعبر عن جزء من الحقيقة الكبرى للإله الواحد.

وهنا يظهر التشابه الواضح بين فكر المصري القديم وما نعرفه نحن اليوم: نحن نقول إن الله رحمن، رحيم، قوي، عزيز، جبار.

أسماء متعددة، لكنها تعود إلى إله واحد. نحن لا نقول إن هناك إلهًا للرحمة وإلهًا للقوة وإلهًا للعزة، بل نقول إن هذه صفات لإله واحد.
كذلك فعل المصري القديم، لكنه عبّر عن الصفات بأسماء ورموز بدلًا من الألفاظ المجردة.

الفارق الجوهري بينهم وبين الوثنية هو أن الوثني يعبد الشيء ذاته، أما المصري فكان يرى وراء الشيء قوة أعظم منه. التمثال ليس معبودًا، بل رمز يساعد الإنسان على تذكّر الصفة الإلهية. مثل من يحتفظ بصورة للكعبة أو المسجد أو الكنيسة ليذكره بالصلاة، هو لا يعبد الصورة، بل يستحضر المعنى الذي ترمز إليه.

كان لدى المصريين تصور واضح للحياة بعد الموت، وللحساب، وللجنة والنار بمعناهما الروحي. القلب يُوزن مقابل “ريشة الحق”، ومن غلبت ذنوبه ضاع، ومن انتصر قلبه عاش في النعيم. فهل يمكن لمجتمع بلا دين أن يتخيل فكرة بهذه الروحانية والعمق؟

وفي مرحلة لاحقة ظهرت نقطة تحوّل مهمة، حين ركّز الملك أخناتون العبادة في اسم واحد هو “آتون”، دون رموز أو شفعاء. ومع أن أخناتون كان الأكثر تصريحًا بالتوحيد، إلا أن روح التوحيد كانت موجودة قبل عهده، ولكن بطريقة رمزية لا مباشرة.

ومع مرور الزمن، حاول الكثير تزييف تاريخ وحضارة المصري القديم  فرُسمت صورة مشوهة للحضارة المصرية. في العصور الأولى بعد الميلاد، كتب بعض مؤلفي التاريخ الدينيين عن الديانات المصرية القديمة واعتبروها “عبادة أوثان”، لأنهم تعاملوا مع التمثال كإله وليس كرمز لفكرة علوية. من أبرز هؤلاء: يوســابيوس القيصري وتيودور باركوني (Eusebius, Preparation for the Gospel وFrankfort, Ancient Egyptian Religion).

وفي القرن التاسع عشر، قدم بعض المستشرقين الأوروبيين الحضارة المصرية على أنها حضارة وثنية، بهدف التأكيد على تفوق أوروبا الحديث على الحضارات القديمة، مثل ما أشار إليه Edward Said في Orientalism وJan Assmann في Egyptian Religion.

وفي القرن العشرين، ساهمت السينما الهوليوودية في ترسيخ هذه الصورة، فقدمت المصري القديم في صورة الساحر والوثني، مثل فيلم: The Mummy (1999)، والذي لعب دورًا كبيرًا في تكوين فكرة خاطئة أن المصريين كانوا “سحرة ووثنيون” وغيره الكثير من الأفلام

إلى جانب ذلك، انتشر استخدام كلمة “فراعنة” لوصف الشعب كله، مع أن الكلمة لم تكن مرتبطة بالشعب إطلاقًا. أصل الكلمة يعود لـ “فرعون” اما الشعب كان يُسمى “المصريون”، وليس “الفراعنة”. هذا التغيير ساعد على تكوين صورة ذهنية بأن هذا الشعب مرتبط بالحاكم وليس بالهوية الحضارية، ما يسهل فصل الحضارة عن أصحابها الحقيقيين. وقد أشار الدكتور عبد العزيز صالح في كتابه “الصهيونية والحضارة المصرية القديمة” إلى محاولات تقديم المصري القديم كـ “شخص وثني همجي”، وهو ما يتقاطع مع توجهات سياسية صهيونية تهدف لنزع القيمة الحضارية المصرية عن أعظم حضارة صنعت العلم والكتابة والفكر التي عرفها التاريخ

وفي جانب آخر من التاريخ الروحي، تُشير الروايات الإسلامية إلى أن سيدنا إدريس عاش في أرض مصر، وكان أول من خط بالقلم، وأنه دعا الناس إلى التوحيد ومعرفة الله. كما أشارت بعض الكتابات الصوفية مثل جلال الدين السيوطي في “الحاوي للفتاوى” إلى وجود صلة بين إدريس و”أوزيريس” في بعض التأويلات، بينما أكد ابن كثير في “البداية والنهاية” والطبري في “تاريخ الأمم والملوك” أن إدريس دعا الناس إلى التوحيد منذ بداية الحضارات. والقرآن ذكر إدريس بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم “وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا” (سورة مريم – آية 57)

بعد النظر لكل هذا، ندرك أن التماثيل والآثار التي نراها اليوم ليست أصنامًا، بل شواهد علمية وروحية وفكرية. نحن لا نركع أمامها، بل نقرأ من خلالها تاريخًا يبحث عن الله.

ولو عاد المصري القديم إلى زماننا ورأى من يصفه بأنه عبد التمثال، لقال بهدوء:
“لم أعبد الشمس… بل رأيت فيها نور الخالق.”

  • نوران الرجال

    نوران الرجال عضو لجنة النقل البحري بالجمعية العمومية العلمية للنقل و عضو لجنة التجارة والصناعة بحزب الدستوريين الأحرار و صحفية في دار الهلال ومؤسسة برنامج الكنز في الصندوق و ما لا تعرفه

    Related Posts

    هكذا ساهم النظام العسكري الجزائري في ذبح أهل غزة . تفاصيل قرار نزع سلاح حماس وماذا بعده ؟

      بقلم الصحافي حسن الخباز مدير جريدة الجريدة بوان كوم   بعد تحفظ كل من الصين وروسيا ، صوتت ثلاثة عشر دولة بمجلس الأمن من بينها الجزائر على قرار نزع…

    تصدرت محركات البحث ، ما لا تعرفونه عن خليفة افيخاي ادرعي ، المسلمة التي أخفت التحاقها بالجيش عن اسرتها 

      بقلم : الصحافي حسن الخباز مدير جريدة الجريدة بوان كوم     معروفة لدى الجيش الصهيوني بلقب : “الكابتن إيلا” ، وهي اول امرأة عربية تشغل منصب رائد ميجور…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *