عامان من اللهب: غزة بين رماد الحرب وصفقات السلام المؤجلة


مرّ عامان على اندلاع الحرب التي قلبت موازين الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي رأسًا على عقب.
منذ السابع من أكتوبر 2023، حين دوّت الصواريخ الأولى واشتعلت غزة، لم تهدأ الأرض تحت أقدام الملايين، ولم يعد المشهد كما كان. تحولت الحرب من مواجهة عسكرية محدودة إلى صراع شامل أعاد تشكيل خريطة المنطقة سياسيًا وإنسانيًا، وترك خلفه ما يشبه الإبادة العمرانية والاجتماعية.
اليوم، وبعد مرور عامين كاملين، تقف غزة بين الركام والرماد، بينما تبقى صفقات التهدئة المتكررة مجرد وعود مؤجلة في طريقٍ طويل من الألم.
الصفقات الفاشلة: هدنة تولد وتموت في اليوم نفسه
مع بداية عام 2025، هلّل العالم لصفقةٍ وصفت بأنها “الأمل الأخير لإنهاء الحرب”، بوساطة مصر وقطر والولايات المتحدة.
الصفقة تضمنت ثلاث مراحل: وقف إطلاق نار مؤقت، تبادل أسرى، ثم انسحاب تدريجي وبداية الإعمار.
لكنها لم تُنفذ إلا في حدودها الدنيا؛ فالقصف لم يتوقف تمامًا، والمفاوضات توقفت عند المرحلة الأولى، بعد أن اختلف الطرفان على شروط الانسحاب الكامل وضمانات رفع الحصار.
هكذا وُلدت الهدنة ميتة، مثل غيرها من عشرات الاتفاقات السابقة التي تُوقّع على الورق ثم تتبدد تحت القنابل.
لقد تحولت “الصفقات” إلى وقفٍ مؤقت للقتال لا أكثر، بينما تستمر الحرب بأشكال جديدة — حرب الغذاء والماء والدواء والتهجير.
أرقام الكارثة: حين يتحول الوطن إلى ركام
خسائر الحرب فادحة إلى حد لا تُقاس فيه المآسي بالأرقام وحدها، لكن الأرقام تظل شاهدًا قاسيًا:
- أكثر من 66 ألف قتيل فلسطيني،
- نحو 170 ألف جريح،
- تدمير ما يزيد على 190 ألف مبنى، بينها أكثر من 100 ألف منزل أُزيلت من الوجود،
- ودمار يطال 92٪ من المساكن في القطاع بحسب تقارير الأمم المتحدة والأونروا.
في الجنوب، رفح الفلسطينية كانت الملجأ الأخير قبل أن تتحول إلى ساحة خراب.
من أبريل إلى يوليو 2025 فقط، تضاعف عدد المباني المدمرة من 15 ألفًا إلى أكثر من 28 ألف مبنى، بينما نزح عنها نحو 800 ألف شخص في واحدة من أكبر موجات النزوح بتاريخ غزة الحديث.
رفح اليوم لم تعد مدينة؛ إنها رمزٌ لمعنى “التهجير القسري”، حيث تلاشت الشوارع والمنازل والمدارس والمستشفيات، وبقي الناس في العراء ينتظرون معجزة أو هدنة حقيقية لا تتبخر مع أول فجر.
بين الأمس والغد: دروس لم تُستوعب
منذ حروب غزة السابقة في 2008 و2014 و2021، ظلت إسرائيل ترفع شعار “القضاء على المقاومة”، بينما كانت غزة تنهض بعد كل حرب، تبني من تحت الرماد وتستمر بالحياة.
لكن الحرب الأخيرة اختلفت نوعيًا؛ فهي لم تترك ما يُعاد بناؤه بسهولة، إذ أصابت العمق السكاني والبنية التحتية في كل منطقة تقريبًا، وجعلت إعادة الإعمار معركةً بحد ذاتها.
الماضي كان يُدار بمعادلة الردع المؤقت،
والحاضر يُدار بمنطق الصفقة المؤجلة،
أما المستقبل فيبدو مرهونًا بسؤال وجودي:
هل يمكن بناء سلامٍ فوق أنقاضٍ لم تُرفع بعد؟
السياسة والإنسان: فشل مزدوج
سياسيًا، فشلت كل الصفقات لأنها تجاهلت جذور الأزمة:
- لم تقدّم أي منها ضمانات حقيقية لرفع الحصار،
- ولم تتضمّن رؤية عملية لإعادة الإعمار أو إدارة ما بعد الحرب،
- ولم تحدد جدولًا زمنيًا لإنهاء الاحتلال الفعلي.
الوساطة تحولت إلى إدارة أزمة، لا إلى حلها.
أما إنسانيًا، فقد خلّفت الحرب جيلًا كاملًا من الأطفال بلا مدارس ولا مأوى ولا ذاكرة آمنة.
تقرير الأمم المتحدة الأخير وصف الواقع بدقة:
“أطفال غزة يعيشون بين فقدان الأهل، والجوع، والخوف .. في عالمٍ لا يسمع صراخهم إلا لتوثيقه بالأرقام.”
هكذا، لم تعد المأساة مجرد حربٍ عسكرية، بل جرحًا في الضمير الإنساني العالمي.
رؤية إلى الأمام: هل يولد الأمل من تحت الأنقاض؟
برغم كل هذا الخراب، تبقى غزة أكثر من مجرد مكانٍ يُقصف.
إنها قصة إرادة وصمود، وضمير مفتوح على العالم.
فمن بين الركام، ما زال الأطباء يعملون بلا كهرباء، والمعلمون يدرّسون الأطفال في الخيام، والصحفيون يوثّقون الكلمة كأنها سلاح.
وربما يكون الأمل — لا السلام — هو ما تبقى حقيقيًا حتى الآن.
فالغد الذي يكتبه طفل على جدار خيمته بكلمة “غدًا” قد يكون أهم من كل بيانات المؤتمرات الدولية.
غزة.. ضمير العالم
عامان من اللهب كشفا عجز العالم أكثر مما كشفا قوته.
كل جولة قتال، وكل هدنة ناقصة، وكل تصريح سياسي، أعاد إنتاج نفس المأساة بأسماء مختلفة.
ومع ذلك، تبقى غزة حيّة، لأنها ببساطة ترفض أن تُمحى.
غزة ليست ساحة حرب فقط،
إنها اختبارٌ دائم لإنسانيتنا جميعًا،
ورمزٌ يقول للعالم:
“قد يُهدم البيت .. لكن لا يُهزم القلب.”
Powered by WPeMatico