بعد عقود من الغموض: العلماء يلتقطون أول دليل على ثقبين أسودين متفاعلين

في القرن التاسع عشر، كان الفلكيون يستكشفون السماء عبر مسحها بتلسكوبات خاصة. وفي إحدى الصور، تم التقاط جرمٍ لامعٍ، لكن الفلكيين آنذاك لم يولوه اهتمامًا كبيرًا، إذ ركزوا على أجرامٍ أخرى لدراستها، لم يكن العلماء في ذلك الوقت على درايةٍ بوجود ما يُعرف اليوم بـ الثقوب السوداء، ولهذا لم يشكّوا في أن الجرم قد يكون شيئًا آخر غير نجمٍ عادي — وهو ما تبيّن لاحقًا أنه اكتشاف مذهل.
في إحدى الليالي الباردة عام 1982، وتحديدًا في فنلندا، قام أيمو سيلانبا (Aimo Sillanpää)، الذي كان آنذاك طالب ماجستير في جامعة توركو، بدراسة المنطقة نفسها التي تجاهلها الفلكيون سابقًا، وبالأخص ذلك الجرم الغامض الذي كان لمعانه يتغير دوريًا كل اثني عشر عامًا، درس سيلانبا هذا الجرم الذي يُعرف باسم الكوازار (Quasar)، وافترض أن هذا التغير الدوري في اللمعان سببه وجود ثقبين أسودين يدوران حول بعضهما البعض.
ومؤخرًا، وبعد عقود، تمكن الباحثون من تأكيد فرضية أيمو، ليتضح أن هذا الجرم هو أول حالة موثقة لثقبين أسودين ثنائيين يدوران حول بعضهما، لكن بقي السؤال المطروح: كيف يمكن تصوير الثقبين في لقطة واحدة بدلًا من ظهورهما كجرمٍ واحد بسبب المسافة الشاسعة؟
يتطلب ذلك صورة بدقة أعلى بمئة ألف مرة من الصور الحالية، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال التلسكوبات الراديوية التي تتيح رصدًا فائق الدقة في نطاقات غير مرئية للعين البشرية.
الثقوب السوداء… ولادة من رماد النجوم
لم تكن الثقوب السوداء وليدة اللحظة، بل مرت بمراحل عديدة قبل أن تتشكّل كما نعرفها اليوم.
ففي البداية كانت نجومًا هائلة الحجم، تتراوح كتلها بين ثلاثةٍ إلى عشرين ضعف كتلة الشمس، وكانت تولّد تفاعلات اندماج نووي تحافظ على توازنها.
لكن حين يعجز النجم عن مقاومة جاذبيته الخاصة، تبدأ طبقاته الخارجية بالانهيار إلى الداخل، حتى ينهار على نفسه تمامًا.
وفي لحظةٍ فاصلة، ينفجر النجم في حدث مهيب يُعرف بالسوبرنوفا، قاذفًا مواده إلى الفضاء بسرعات هائلة.

يُعد السوبرنوفا من أروع الظواهر الكونية، إذ يمكن رصده حتى في مجرّات تبعد ملايين السنين الضوئية، حيث يسطع لأيامٍ عدة قبل أن يخفت تدريجيًا.
أما إذا كانت كتلة النجم الأصلية كبيرة بما يكفي، فإنه يتحول بعد الانفجار إلى ثقب أسود، يجذب كل ما يقترب منه — حتى فوتونات الضوء نفسها، التي تعجز عن الإفلات من قوة جاذبيته، فيبقى غير مرئي تمامًا، ومن هنا جاء اسمه: الثقب الأسود.
الكوازار OJ 284… الثقبان الأسودان في مدارٍ أبدي
المنطقة التي يدرسها العلماء تُعرف باسم الكوازار OJ 284، وهي منطقة تحتوي على غازاتٍ شديدة السخونة تشع ضوءًا هائلًا حول الثقب الأسود، وفي بحثٍ نُشر في دورية الفيزياء الفلكية، كشف العلماء عن صور التُقطت بتلسكوبات راديوية تؤكد وجود ثقبين أسودين يدوران حول بعضهما البعض، ويُعد هذا الاكتشاف من أبرز مزايا الرصد في نطاقات غير الضوء المرئي، إذ يتيح الكشف عن تفاصيل دقيقة لا يمكن ملاحظتها بالتلسكوبات البصرية.
فالثقوب السوداء نفسها لا تُرى، لكن يمكن رصد الغازات اللامعة المحيطة بها وهي تدور بسرعات هائلة في مداراتها.
كما أظهرت الصور أن النفاثة المنطلقة من الثقب الأسود الأصغر تبدو ملتويةً كتيار ماءٍ يندفع من خرطوم حديقة دوّار، نتيجة حركته السريعة حول الثقب الأسود الأكبر.
ويؤكد الباحثون أن هذه النفاثة ستبدو وكأنها تتمايل ذهابًا وإيابًا مثل ذيلٍ كونيٍ مضيء، بينما يواصل الثقب الأسود الأصغر دورانه الذي يستغرق اثني عشر عامًا، مما يتيح فرصة نادرة لمراقبة تطور حركتهما في الزمن الحقيقي.
Powered by WPeMatico