حين نتحدث عن سيناء، فإننا لا نتحدث عن أرض عابرة أو صحراء منسية، بل عن صفحة من نور في سجل الخلق الإلهي، الأرض التي ناداها الله بنفسه، فقال: {فَنَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}.
هناك وقف موسى عليه السلام حافي القدمين، يستمع إلى صوت السماء للمرة الأولى، فصارت سيناء منذ تلك اللحظة بيت الوحي ومهبط الأسرار، الأرض التي حملت بين جبالها معنى الخشوع والإدراك الإلهي، وجعلت من كل حجر فيها شاهدًا على العهد بين الخالق والإنسان.
لا تقاس سيناء بالكيلومترات، بل بحقيقتها الروحية الخالدة، هي ذاكرة الرسالات، ومعبر الأنبياء، ومهد التجارب الكبرى التي صاغت ضمير البشرية. فيها عرف الإنسان أول امتحانٍ للطاعة، ومنها تعلم معنى القداسة حين أمر الله موسى بخلع نعليه، إشارة إلى أن هذه الأرض لا تطأها الأقدام إلا بخشوع القلوب.
ومنذ ذلك الحين، بقيت سيناء مفتاح مصر وسر قوتها؛ هي حارسها الشرقي، وبوابتها التي لا تُغلق. لم تكن يومًا أرضًا هامشية في التاريخ، بل كانت دائمًا في القلب من كل حدثٍ مصيري، من مرور بني إسرائيل، إلى الفتح الإسلامي، إلى المعارك التي خاضها المصريون دفاعًا عنها حتى لحظة النصر في حرب أكتوبر المجيدة. هناك، فوق رمالها الصامتة، امتزج الإيمان بالدم، وتحولت قدسيتها إلى قوة مادية وروحية جعلت من كل جندي مصري حاملًا لرسالة السماء وهو يحررها.
في دير سانت كاترين تتجلى وحدة الأديان، فالمسجد إلى جوار الكنيسة، والجبل يحتضن الصلوات كلها. هذه الأرض تعلم الإنسان أن القداسة لا تعرف التعصب، وأن الإيمان، مهما اختلفت لغاته، له قلب واحد ينبض في سيناء. فهي لا تنتمي لفصيل أو عقيدة بعينها، بل هي ميراث روحي مشترك بين البشر، أيقونة التواصل بين الله وخلقه.
ولأنها الارض المقدسة، كانت دائمًا مطمعًا للبشر. حاول كثيرون طمس معناها أو تحويلها إلى مجرد موقعٍ استراتيجي، لكنهم نسوا أن سيناء لا تُحكم بالقوة فقط، بل بالفهم، ولا بالسلاح دون، الإيمان. من يقترب منها دون وعيٍ بسرّها، يفقد بوصلته، ومن يفهمها يدرك معنى الاصطفاء، فالله لا يختار أرضًا عبثًا.
وفي كل زمن، كانت سيناء تمتحن الشعوب، تكشف من يؤمن بمعناها ومن يطمع فيها. وعندما جاء نصر أكتوبر، لم يكن مجرد استعادة للأرض، بل استعادة للرسالة، كأن القداسة أشرقت من جديد في عيون الجنود وهم يعبرون القناة، فيتحول التاريخ إلى صلاة، والرصاص إلى ترنيمة وطنية تصدح باسم الله والوطن معًا.
سيناء اليوم ليست مجرد تذكار للوحي أو ساحة حروب، بل رمز للبقاء المصري، الأرض التي تثبت أن هذا الوطن لا يُكسر لأن جذوره تمتد إلى مكانٍ كلّمه الله. في جبالها تسكن أرواح الشهداء، وفي وديانها تمتد ذاكرة الأنبياء، وفي كل ذرة من ترابها يعيش وعد الله بالحفظ والرعاية.
من يطأها بصدق يشعر أن الهواء فيها مختلف، وأن الصمت له لغة، وأن الجبال تهمس بآياتٍ خفية. هنا تكمن الحكمة الإلهية التي لا تنطفئ، وهنا يبقى العهد قائمًا بين السماء والأرض، بأن سيناء ستظل أرض القداسة والبطولة والرسالة، لا تزول مكانتها، ولا تخفت أنوارها، فهي الغرض الذي اختاره الله لتكون بوابة النور، وأمانة في عنق كل مصري إلى أن تنتهي الأرض ومن عليها






