
في عام 427 هـ، توفي الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله، وتولى الحكم من بعده ابنه المعد المستنصر بالله، وكان عمره حينها سبع سنوات فقط. ولصغر سنه، تولى شؤون الدولة وزير بارز كان يدير الأمور بحكمة، وساهم في زيادة الرقعة الزراعية وتوسيع الأراضي المزروعة حول مصر. لكن الأقدار شاءت أن يتوفى هذا الوزير عام 436 هـ، وكان الخليفة لا يزال فتى في السادسة عشرة من عمره. ومنذ ذلك الحين بدأت ملامح الاضطراب تظهر، خاصة مع تدخل والدته السيدة رصد في شؤون الحكم والجيش، مما مهّد لنشوء أزمات داخل المؤسسة العسكرية.
عُيّن محمد البازوري وزيرًا للدولة، وكان على دراية تامة بما يحدث، وتمكن من السيطرة على الأمور مثل الوزير السابق. إلا أن شعبيته الواسعة ورفاهيته التي تجاوزت حتى ما كان يُقدم للخليفة نفسه، جعلت الخليفة المستنصر يعزله ويسجنه حتى وافته المنية في محبسه.
تزامن ذلك مع أزمة اقتصادية شديدة، بدأت بنقص منسوب مياه النيل عام 446 هـ، وزادت الأسعار في عامين متتاليين، فارتفع سعر شوال القمح إلى 8 دنانير، وحدثت فوضى في الأسواق، حيث اكتشف الوزير البازوري أن 10 أرطال من الخبز تباع بدرهم واحد فقط، بينما كانت خزينة الدولة تحتوي على مئة ألف دينار من الغلال والقمح. ومع ذلك، قرر الوزير استيراد التوابل والعطور بدلًا من تأمين الحبوب، مما أدى إلى نقص شديد في الغذاء.
في عام 450 هـ، قام المستنصر بعزل الوزير البازوري وسجنه، إلا أن تدخل السيدة رصد استمر، وكانت تغيّر الوزراء كل 12 ساعة تقريبًا، مما شلّ قدرة الحكومة على العمل. وأحضرت 30 ألف جندي سوداني لحماية القصر، مما أدى إلى انقسام الجيش بين ثلاث طوائف: المغاربة، الأتراك، والسودانيين، وبدأت الصراعات بينهم، وتفاقمت الأوضاع بفرض ضرائب جديدة على الشعب، وسادت الفوضى، حتى سيطر الأتراك على الحكم بالقوة، ونهبوا القصر، وأُجبر الخليفة على الجلوس على حصير بعد أن سرقوا كل ممتلكاته، وبِيعَت ملابسه في الأسواق.
في عام 462 هـ، بلغ الجوع مداه، حتى أصبح الخليفة ينتظر صدقة من الخبز، وبلغت المجاعة ذروتها حين بدأ الناس يأكلون القطط والكلاب بأسعار محددة، فوصل سعر القط إلى 3 دنانير، والكلب إلى 5 دنانير. ثم تطور الأمر إلى أكل لحوم البشر، حيث انتشرت جرائم الخطف والقتل من أجل الأكل، بل حتى جثث المعدومين كانت تُجمع وتُؤكل، خاصة عام 466 هـ.
استمرت هذه المعاناة حتى عام 470 هـ، حين لجأ الخليفة المستنصر بالله إلى بدر الجمالي، والي عكا آنذاك، ووافق على شروطه دون سماعها نظرًا للضيق الشديد. وعند دخول بدر الجمالي إلى مصر، قام بحملة تطهير شاملة، فقتل الفاسدين من الوزراء والضباط، وبدأ ببناء القصور وتوسيع الرقعة الزراعية، ومنح الفلاحين إعفاءً ضريبيًا لثلاث سنوات.
لكن المشكلة بقيت في عدم وجود بذور. فابتكر بدر الجمالي حيلة ذكية، حيث جمع المحكوم عليهم بالإعدام، وألبسهم زي التجار، وأمرهم بالتظاهر بأنهم يتاجرون في القمح والدقيق، وكل من لم يتجاوب تُقطع رأسه. فارتعب التجار الحقيقيون، وطلبوا العفو، ووعدوا بإخراج مخزونهم من الغلال، وهكذا عادت الأسواق لتنتعش، وعمّ الخير من جديد.
الدروس المستفادة والحلول المقترحة لمواجهة الاحتكار في العصر الحديث
لقد أظهرت هذه التجربة التاريخية أن الاحتكار والجشع يمكن أن يُدمّرا الأمم، وأن هناك طرقًا ذكية لمواجهة الأزمات. ومن هنا يمكن استلهام مجموعة من الحلول العملية والقانونية لمواجهة الاحتكار في مصر:
1. استخدام الذكاء الاصطناعي في الرقابة الزراعية
بناء منظومة رقمية تتابع كل فدان مزروع ونوع المحاصيل.
تتبع حركة بيع المحاصيل من الفلاح إلى التاجر.
كشف حالات التخزين غير المبرر وتحديد من يحتكر السلع.
2. تحديد سقف لتخزين المنتجات الزراعية
إلزام التجار والمزارعين بعدم تخزين كميات تفوق الحد القانوني.
توقيع غرامات على من يتجاوز السقف، أو من يوقف التداول من أجل رفع الأسعار.
3. إنشاء بورصة زراعية إلكترونية
تربط بين المزارعين والمستهلكين مباشرة.
تحدّ من وسطاء السوق وتقلل فرص الاحتكار.
4. إحياء “بيت المال الزراعي”
مؤسسة حكومية تشتري المحاصيل الأساسية من الفلاحين بأسعار عادلة.
تقوم بتوزيعها عند الأزمات بأسعار مناسبة، مما يحقق الأمن الغذائي.
5. إنشاء وحدات تخزين استراتيجية للأزمات فقط
توزع هذه المخازن في الأقاليم وتُستخدم وقت الحاجة فقط.
تدار بإشراف قضائي وإلكتروني لتجنب الفساد.
6. إصدار بطاقات ذكية للفلاحين والتجار
تسجل فيها الكميات المباعة والمشتراة.
تساعد الدولة في مراقبة السوق والسيطرة على التسعير.
7. إطلاق قناة توعوية على المنصات الرقمية
تشرح مخاطر الاحتكار وتأثيره على المجتمع.
تنشر الوعي بحقوق المستهلك والرقابة المجتمعية.